إسرائيل والإفلات من العقاب- استهداف الصحفيين وتكميم الحقيقة

المؤلف: عمر كوش10.03.2025
إسرائيل والإفلات من العقاب- استهداف الصحفيين وتكميم الحقيقة

دعا الاتحاد الدولي للصحفيين المجتمع الدولي بأسره إلى تحمل التزاماته إزاء سلسلة الاغتيالات المشينة التي طالت الصحفيين، لا سيما في مناطق الصراع الملتهبة كفلسطين ولبنان وإسرائيل وسوريا.

وجه الاتحاد اتهامات صريحة لإسرائيل بخرقها الصارخ لقرارات مجلس الأمن الدولي، وعلى رأسها القرار رقم 2222 لسنة 2015 والقرار 1738 لسنة 2006، واللذين يدينان بشدة الاعتداءات الشنيعة على الصحفيين والعاملين في الحقل الإعلامي أثناء النزاعات المسلحة، ويؤكدان على ضرورة حماية الصحفيين والعاملين في وسائط الإعلام والطواقم المساندة لهم بموجب القانون الدولي الإنساني، وهو ما تنص عليه تحديدًا اتفاقية جنيف الرابعة.

علاوة على ذلك، استنكر الاتحاد الدولي للصحفيين بشدة النهج الإسرائيلي حيال الصحافة، وما يتبعه من استهداف ممنهج للإعلاميين منذ اندلاع حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل منذ ما يربو على العام ضد الفلسطينيين في قطاع غزة المحاصر، والتي امتدت لتشمل كوادر وقيادات "حزب الله" اللبناني، وأماكن تواجدهم في مختلف الأراضي اللبنانية.

من دواعي الأسف العميق والمرارة البالغة أن عامًا آخر ينقضي دون أن يلقى ساسة إسرائيل وقادتها العسكريون جزاء رادعًا على عمليات الاغتيال والاستهداف التي تطال الصحفيين، فضلًا عن استهداف المدنيين الأبرياء العزل في فلسطين ولبنان وسوريا، وغيرها من المناطق، على الرغم من أن الصحفيين يتمتعون بحماية كاملة أثناء الحروب والنزاعات المسلحة، وذلك بموجب القانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقية جنيف لعام 1949 والبروتوكولات الإضافية الملحقة بها، وهو ما يوجب على الدول حمايتهم من الهجمات المباشرة أسوة بباقي المدنيين.

لقد بذل مشرعون وحقوقيون دوليون جهودًا مضنية وجبارة، على مدار عقود طويلة، من أجل صياغة قواعد القانون الدولي الإنساني أثناء الحروب والنزاعات، بهدف توفير الحماية اللازمة للمدنيين بشكل عام، إلا أن معظم الدول تقاعست عن الالتزام بتلك القواعد، مما دفع الجمعية العامة للأمم المتحدة، في شهر كانون الأول/ديسمبر من عام 2014، إلى تخصيص يوم الثاني من تشرين الثاني/نوفمبر من كل عام كيوم دولي لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم التي تُرتكب ضد الصحفيين.

يبدو أن إفلات إسرائيل من العقاب أصبح أمرًا مسلمًا به، وذلك بالنظر إلى الدعم والمساندة اللامحدودين اللذين تتلقاهما من قِبل قادة الولايات المتحدة، ومعهم أغلب قادة الدول الأوروبية ونظرائهم.

منذ بداية حربها الشعواء، سعت إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة إلى طمس الحقائق وتغييبها، وإخفاء جرائمها الوحشية، وتعمدت إسكات الأصوات الحرة التي تنقل حقيقة ما ترتكبه من فظائع في قطاع غزة، وذلك عن طريق الاستهداف المتعمد للصحفيين والإعلاميين.

وقد أدى هذا الإفلات من العقاب إلى تمادي إسرائيل في استهداف الإعلاميين، حيث تشير تقارير لجنة حماية الصحفيين إلى أن إسرائيل قد قتلت حتى تاريخ 25 تشرين الأول/أكتوبر الماضي، ما لا يقل عن 180 صحفيًا وعاملًا في الحقل الإعلامي في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان منذ بدء عدوانها على غزة، الأمر الذي يجعل هذه المرحلة الزمنية هي الأكثر دموية بالنسبة للصحفيين منذ أن بدأت اللجنة بجمع البيانات والإحصائيات في عام 1992.

بلغ التجاوز الإسرائيلي ذروته في الاستهداف المباشر للصحفيين، حيث قصفت الطائرات المقاتلة الإسرائيلية في الخامس والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر الماضي مقرًا في بلدة حاصبيا في جنوب لبنان، كان يشغله ثمانية عشر صحفيًا ينتمون إلى سبع مؤسسات إعلامية متنوعة، محلية وعربية، مما أدى إلى مقتل ثلاثة منهم وإصابة ثلاثة آخرين بجروح.

إن استهداف الصحفيين والعاملين في وسائل الإعلام العربية والعالمية ليس بالأمر المستغرب على إسرائيل، فسجلها حافل بالعديد من الجرائم الموثقة ضد الصحفيين، والتي سجلتها كافة المنظمات والهيئات الدولية المعنية، إلا أنه لم يتم إخضاع هذه الدولة للمساءلة والمعاقبة على جرائمها، وبات العالم شبه عاجز أمام دولة مارقة ترتكب أبشع الفظائع والمجازر، وتنتهك جميع المواثيق والقوانين الدولية.

تكمن المشكلة الأساسية في أن المجتمع الدولي يجد نفسه مقيد الأيدي إزاء الجرائم الإسرائيلية ضد الصحفيين؛ وذلك بسبب تعطيل آليات معاقبة إسرائيل على جرائمها، وعدم التمكن من اعتماد اتفاقية ملزمة للأمم المتحدة تضمن سلامة واستقلال الصحفيين وغيرهم من العاملين في الحقل الإعلامي.

وعليه، فسوف يكتفي ممثلو الاتحاد الدولي للصحفيين واتحادات الصحفيين الأخرى بالإدانة والاستنكار خلال مشاركتهم في الاحتفال الذي ستنظمه الأمم المتحدة بمناسبة اليوم العالمي لإنهاء الإفلات من العقاب، والمقرر إقامته يومي السادس والسابع من تشرين الثاني/نوفمبر 2024 في أديس أبابا، بينما ستبقى قضية إنهاء الإفلات من العقاب في الجرائم المرتكبة ضد الصحفيين ماثلة أمام أعين ساسة العالم وقادته، بوصفها أحد أهم التحديات وأكثرها تعقيدًا في النظام الدولي المعاصر، وذلك على الرغم من أن حلها يمثل الشرط الأساسي لضمان حرية التعبير، وضمان تمتع جميع أفراد المجتمعات الإنسانية بالحق في الحصول على المعلومات.

من الواضح بجلاء أن الإدانة والاستنكار لجرائم إسرائيل بحق الصحفيين والمدنيين لن يثنياها عن الاستمرار في ارتكاب المزيد من أعمال القتل والاغتيال بحقهم. وبالمثل، لن تسفر الشكاوى التي تقدمت بها المنظمات الدولية إلى الأمم المتحدة عن طائل يُذكر، إذ سبق لمنظمة "مراسلون بلا حدود" الدولية أن تقدمت بثلاث شكاوى تتعلق بجرائم إسرائيل ضد صحفيين فلسطينيين في قطاع غزة، وطالبت المنظمة بإجراء تحقيق من قِبل المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية، نظرًا لأن حجم الجرائم الإسرائيلية التي تستهدف الصحفيين وخطورتها وتكرارها يندرج ضمن إطار جرائم الحرب.

إلا أن المحكمة لم تحرك ساكنًا حتى الآن، بل ولم تُصدر بعد مذكرة الاعتقال التي طالب بها مدعيها العام كريم خان بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، وذلك بسبب الضغوط الهائلة التي يتعرض لها قضاة المحكمة من قِبل إسرائيل وحلفائها في الولايات المتحدة والدول الغربية.

يثور التساؤل بقوة حول الأسباب الكامنة وراء استمرار إسرائيل في هذا النهج، وذلك في أعقاب تواتر استهدافها للصحفيين، فلم تتوقف عن استهداف الصحفيين وعائلاتهم، وقصف منازلهم ومقار عملهم، بل تطلق التهديدات وتقوم بعمليات اعتقال تطالهم في غزة والضفة الغربية.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ما تزال إسرائيل تفرض قيودًا مشددة على ما تنشره وسائل الإعلام الغربية بشكل عام، وتشترط إخضاعها لرقابتها قبل نشر أي صورة أو خبر عن وقائع حربها الشعواء على الفلسطينيين، فضلًا عن منعها للصحفيين الأجانب من دخول قطاع غزة، وحرمانهم من تغطية وقائع وأحداث حرب الإبادة التي تشنها هناك، بالإضافة إلى منعهم من كشف ممارساتها وأفعالها في الضفة الغربية.

لا ريب أن ساسة إسرائيل سيواصلون سياساتهم القائمة على استهداف العاملين في الحقل الإعلامي، ما دامت المحكمة الجنائية الدولية، أو سواها من المنظمات الأممية ذات الصلة، لم تبادر إلى التحقيق في الجرائم الإسرائيلية. ويكشف واقع الحال أن استمرار إفلات إسرائيل من العقاب قد شجعها على التمادي في ارتكاب جرائمها النكراء.

ولعل عدم خضوعها لأي محاسبة أو عقاب على جريمة قتلها لمراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو עאקله وغيرها من الصحفيين، يقدم دليلًا قاطعًا على أنها تتصرف وكأنها فوق القانون الدولي والإنساني، فالقتل أصبح سمة مميزة لنهجها وممارساتها العدوانية.

من دواعي الاستغراب والسخرية الشديدة الانحياز الأعمى من جانب معظم وسائل الإعلام الغربية لإسرائيل في حربها على غزة، وتبنيها الكامل للرواية الإسرائيلية دون أي تدقيق أو تمحيص، الأمر الذي أفقدها استقلاليتها وحياديتها المهنية.

لم تفلح القرارات الدولية في ردع إسرائيل عن استهداف العاملين في وسائل الإعلام، لتبقى قضيتهم حية في الضمير الإنساني، ومعلقة في عنق المجتمع الدولي، فهل ستتحرك الحكومات والمؤسسات كي لا تذهب سدى تضحيات الصحفيين الذين قُتلوا أو قُتل أفراد عائلاتهم وذويهم أو أصيبوا بجروح أو دُمرت أماكن سكنهم ومعيشتهم؟ وإلى متى ستستمر دول الغرب في حماية إسرائيل، والحيلولة دون محاسبتها ومعاقبتها على الجرائم التي ترتكبها بحق الصحفيين والمدنيين الأبرياء؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة